U3F1ZWV6ZTU0ODU5NzAwMzQxMDI1X0ZyZWUzNDYxMDI0Mjc0MDc3OA==

العروس المختارة: [ الفصل الرابع: المواجهة]


الفصل الرابع : المواجهة


السلام عليكم يا معشر القارئات الجميلات ♥️
أسعد الله أوقاتكن، كيف حالكن؟ إن شاء الله كلكن في أمان الله ورحمة.

إستمتعوا بالفصل ♥️

-----------------------------------{4}---------------------------------

ترجلت فيوليت من العربة المزينة بتعب واضح، بعد أن سبقها السيد لورانس، السيدة ليديا، ثم جورجيا.

هذه زيارتها الثانية لقصر السيد هارفي… لكن الأمر بدا مختلفًا هذه المرة.

ففي المرة الأولى لم تلاحظ سوى الحديقة ثم كان المكان مزدحما ودخلوا بعدها بعجالة إلى القصر.

كان القصر ضخما، شامخا ومزخرفا من الأسفل إلى الأعلى بنقوش دقيقة تكسو الواجهة.

"فيوليت، هل أنتِ بخير؟" سألتها جورجيا بهمس، وقد لاحظت تصبب العرق على جبينها واحمرار وجهها.

"أجل، لقد تعبتُ في الأيام الماضية" قالت ببطء، رأسها يؤلمها قليلا و تشعر ببعض البرد لكنها ستكون بخير. 

هذه أعراض أوليةٌ لإصابتها بالزكام وليس بالشيء الكبير. 

عند بوابة القصر، كان الخدم مصطفين لاستقبالهم، والسيد هارفي واقفٌ بانتظارهم… وحده.

رغم كل محاولاتها للحفاظ على تماسكها، لم تستطع منع خيبة الأمل الخفيفة من التسلل إلى قلبها.

السيد كارلوس لديه عمل غير التجول والترحيب بالضيوف بالطبع. 

"أهلاً بكم في قصري" قالها السيد هارفي بصوته العميق.

"شكراً لك، سيد هارفي. إنه لشرف كبير" رد السيد لورانس بأدب، وانحنت السيدة ليديا وجورجيا بخفة، فاضطرت فيوليت أن تفعل بالمثل.

قادهم السيد هارفي إلى الداخل، إلى صالة فسيحة تكاد 
تتسع للخيول.

لكن رغم اتساعها، لم يكن بها ما يوحي بالفراغ، كل قطعة أثاث، كل فانوس يتدلّى من الثريا، كل لوحة على الجدران.. كانت منتقاة بعناية رجل لا يرضى بأقل من الكمال وله ذوق رفيع.

أشار السيد هارفي بيده إلى الخدم وقال ببساطة
"ابدأوا التقديم"

دخل الخدم بلباسهم الموحد المتناسق، يحملون صواني أنيقة عليها أكواب من الشاي المختلف وبعض الحلويات.

في كل كأس زهرة مجففة، بدأت تتفتح ببطء ما إن صُب فوقها الماء الساخن، تاركة لونها يعم السائل مع منظر جميل للغاية.

"تفضلوا، لقد طلبت هذا خصيصا لأجلكم" 

"ما أصل هذه الزهرة سيد هارفي؟" سألت فيوليت فاتحة الحديث ولم تستطع منع فضولها أبدا. 

"إنها من شمال الهند، أتتني كهدية و أحببت الطعم و المنظر أيضا" 

ارتشفت القليل، فتسللت النكهة المميزة إلى حواسها، غنية لكنها منعشة.

"لديك ذوق خاص، سيد هارفي" أضافت جورجيا بابتسامة مهذبة.

"هل نال إعجابكم؟" سأل وهو ينظر إليهم.

"طبعًا، إنه رائع"

نظرت إليه فيوليت بنظرة خاطفة، تكاد لا تُلحظ، وهي تسجّل في عقلها طريقته في الجلوس وتعابير وجهه.. استقامة جسده لم تختلف عن الليلة التي كان فيها مع السيد كارلوس في منزل السيد لورانس.

بطبيعتها، كانت فيوليت تميل إلى التحليل والملاحظة، خاصة حين يتعلق الأمر بما يثير اهتمامها، لكنها الآن لم تكن تراقب السيد هارفي بدافع الفضول فقط… بل لأنها مضطرة لذلك أيضا.

هذا ما اتفقت عليه مع جورجيا، وهذا هو السبب الحقيقي لقدومها إلى هنا.

وما من مصدر أدق للإجابات… من السيد هارفي نفسه.

لكن كيف تبدأ الحديث مع رجل لم يتردد لحظة في إهانتها أمام الجميع؟ 

ذكريات تلك الليلة تركت مذاقا لاذعا في حلقها وتعكر مزاجها بسرعة ولا تعلم هل بسبب المرض أو شيء آخر لكن انزعاجها كان أكبر من المعتاد.

"يمكن تجربته مع بعض الزعفران.. أظن أن ذلك سيبرز مذاقه أكثر" قالت جورجيا ليعقب السيد هارفي "سآخذ ذلك بعين الإعتبار"

"سيد هارفي، هل تعيش لوحدك؟" سألت فيوليت، بصوت بدا هادئًا لكنّه حمل فضولًا حقيقيًا.

كان سؤالًا لم يسبق أن طُرح عليه من قبل.

فعلى الرغم من وجوده الدائم في العاصمة، وسط الأعين التي تراقبه وتتحرى أخباره، لم يُعرف عن عائلته شيء يُذكر.

الجميع يعلم فقط أن والدته تقيم في الريف منذ سنوات… ولا أحد يتحدث عن غير ذلك، ولا حتى الشائعات.

توقّف عن تحريك الكوب بين يديه، ورفع عينيه نحوها، بحاجب مرفوع.

كان ذلك أول تعبير واضح يعلو وجهه منذ معرفتها به. 

فيوليت، التي لم تكن تتوقع ردّة فعل مباشرة، شعرت بحرارة في وجنتيها وكادت تختنق برشفة الشاي، بينما كان ينظر إليها بثبات لا يمكن قراءته.

"أجل، أعيش لوحدي" 

إحتد صوته بخفة وهو يجيبها، الشيء الذي جعلها تستنتج أن الحديث عن عائلته موضوع شائك وحساس لكن لماذا؟

أكانت ستقف عند هذا الحد؟ طبعا لا.

"أين هي عائلتك؟"

"فيوليت!" وبختها السيدة ليديا ورمقتها بنظرة قاتلة

"هل كنت وقحة في سؤالي؟ لا أرى خطئا في ما قلته.. ألا تريدين أن تعرفي أي شيء عن عائلة السيد هارفي؟" بررت ببراءة وهي تتنقل بنظرها بينهم.

"السيد هارفي سوف يخبرنا عن عائلته في الوقت المناسب لذلك" قالت جورجيا والتي في الحقيقة لم تكن تهتم كثيرا بعائلته ولهذا لم تسأل من قبل لكنها لا تستطيع أن تُبدي عن ذلك أمامه.

"وإن لم يخبرك؟ ألن تسألي أبدا؟" سألت فيوليت بدهشة ورفعت كتفيها لتكمل "حسنا، الأمر راجع لكم"

رجعت ترتشف من الشاي كأنها لم تُوَتر الجميع بما قالته، التقت عيناها بعينيه، هو الذي لم يزح نظره عنها منذ أول سؤال لها.

شيء في نظرته أخبرتها أنها فتحت بابا كان يجب أن يبقى مغلقا، كانت نظرته فارغة كأنه لا ينظر إليها بل يعيش شيئا داخل عقله.

رعشة خفيفة سرت في جميع أطرافها ورهبة غريبة أثارتها نظرته وكأنه تجمد لحظيا. 

"لكل شخص حيز قد لا يريد التطرق إليه.." قال السيد لورانس بثبات موجها حديثه للسيد هارفي وأكمل "سُمْعَتك معروفة وإن كانت عائلتك لا تستطيع الحضور لسبب ما فنحن لا نمانع 
ذلك"

"والدتي تعيش في الريف وصحتها لا تسمح لها بالتنقل"، قال السيد هارفي بعد صمته الطويل، وأكمل ببرود كأن ما يقوله لا نقاش فيه "هذا كل ما تحتاجون معرفته عن عائلتي"

ابتسمت فيوليت وهي تحرّك رأسها إلى الجانبين، كانت تم حصرها كفأر في الزاوية ليلة العشاء، وهو الآن، بكل تعجرف، يحدّد ما يُشاركه وما لا يُشاركه.

"المال يصنع المعجزات..." تمتمت باستهزاء تحت أنفاسها.

لكنها لم تتوقّع أن يُسمع صوتها، حتى ارتطم الكأس بطبق الشاي بقوة، وسمعت صوته يقول بحدة "لا زلت لا أهتم بوضعك وسط عائلة مولير، ونظراً لذلك..  لمَ علي تحمل تجاوزات خادمة الآن؟"

أخذت نفساً عميقاً وهي تحاول أن تتّخذ قراراً حاسماً، هل تعتذر؟ هل تخبره أنها لم تقصد ازعاجه؟ أو تخاطر بكل شيء، وليذهب هو وفرصة دخول القصر إلى الجحيم!

"لا أعلم سبب استيائك بكل صراحة، سيد هارفي... هل الحديث عن عائلة الشخص مزعجٌ وغير منطقي لهذه الدرجة؟ أم لأنني أشرت إلى الازدواجية في المعايير هنا؟ قد لا أكون غنية، لكنني إنسانة كما أنت إنسان، ولربما أشعر أكثر مما تشعر أنت... عندما وُضِعتُ تحت التحقيق كحشرة، لم أرك تمانع رشّ الملح على جروحي ووضعي! فلماذا تستصعب الجواب على سؤال بسيط كهذا وتتحفظ على ما تريد مشاركته مع زوجتك المستقبلية؟ ولماذا عليك إهانتي كلما سمحت لك الفرصة؟! لا أرى أحداً يتحمّل شيئاً هنا غيري!"

لا تعلم متى ارتفع صوتها أو انفجرت أمامهم لكنها وقفت بسرعة، تحاول التقاط أنفاسها، وحالتها الجسدية بدأت تزداد سوءاً.

"إعتذري حالا" قال السيد لورانس الذي استشعر خروج الأمر عن السيطرة

"فيوليت اهدئي قليلا" قالت جورجيا التي هي بدورها لم تستطع فهم تصرفات فيوليت الخارجة عن نطاق شخصيتها تماما.

"طبعا" قالت فيوليت وهي تمسح وجهها بمنديلها لتنظر إليه من الأعلى كأن هذه هي طريقتها الوحيدة لتُشعرهُ بالدنيوية ثم قالت بكل هدوء"أعتذر عن تجاوز حدي معك السيد هارفي، يبدو أنني بالغت في ردة فعلي بسبب المرض والتعب.. أستأذن منكم، أريد استنشاق بعض الهواء.. أتسمح لي باستنشاق بعض من الهواء الموجود داخل قصرك؟"

ورغم نبرتها المتزنة كان يعلم أنها تسأله بسخرية.

درس وجهها بسرعة، يبدو عليها تعب شديد، قطرات صغيرة من العرق على جبينها، خدودها المحمرة وعينيها اللواتي تحملان عبئا كبيرا.. استطاع رؤية الإجهاد الجسدي والنفسي أيضا الذي ينبعث منها وبدل الضغط عليها سمح لها بالرحيل

"تفضلي"

خرجت دون التفات تاركة خلفها جورجيا التي تحاول إصلاح الوضع مع والديها

"سيد هارفي دعني أعتذر عن ما حدث، فيوليت فتاة هادئة وصدقني ما كانت لتتحدث هكذا لولا مشاعرها التي تراكمت"

"هذا لا يبرر تصرفها" قالت السيدة ليديا بحنق وأكملت "لا يمكنها تفريغ غضبها على الآخرين"

"كيف تجدين القصر آنسة جورجيا؟" 

فاجئهم السيد هارفي بتغيير الموضوع تماما لتجيب جورجيا فورا

"لا أظنني أستطيع وصفه.. إنه مثالي"

بدأت الأجواء تهدأ مجددا، وبينما هم يتحدثون، كانت فيوليت تمشي وسط الحديقة الكبيرة دون وجهة، خطواتها سريعة ووجهها مشدود.

تشعر بغضب عارم على كل شيء وكل شخص، أولهم هي!

ما فعلته للتوّ… كان حماقة خالصة! الدخول إلى القصر لم يكن أمرًا تافهًا، بل كان فرصة لتترك العمل المرهق في بيت آل مولير، لتحصل على معاملة أفضل تحت ظل أكذوبة كفالة السيد لورانس، وربما حياة أكثر رفاهية.

والآن، باندفاع كلماتها أمام السيد هارفي، وضعت كل ذلك على المحك.. هذا الرجل لم يُخفِ أنه قد يفسخ خطوبة جورجيا إن لم تعجبه تصرفاتها، فما الذي يمنعه من التخلص منها هي أيضًا إن وجد الأمر مناسبًا؟

يا للحمق… أي جنون جعلها تفقد السيطرة هكذا؟

لمحت أرجوحة تتدلى من شجرة ضخمة، ظلها يغطي المكان لأن أوراقها تُركت دون تشذيب. لم تكن تشبه أي شيء رأته في بقية الحديقة… كمن رمّم بيتًا كاملًا وترك غرفة واحدة على حالها، بالية ومنسية.

اقتربت بخطوات بطيئة، تحاول الحفاظ على توازنها. حبال الأرجوحة كانت قد غاصت في جذع الشجرة حتى صارت كأنها جزء منه.

السيد هارفي يعيش وحده، ومن المستحيل أن يجرؤ الخدم على وضع شيء كهذا في الحديقة دون إذنه

مدّت يدها ولمست الحبل بخفة، كان خشنًا ودافئًا من الشمس. جلست بحذر، تتساءل إن كانت ستتحمل وزنها، ووجدتها ثابتة على نحو مدهش. أسندت رأسها إلى يدها التي تمسك أحد الحبال، بينما اليد الأخرى تمسكت بالحبل المقابل.

أغمضت عينيها، تستشعر أشعة الشمس التي تتسلل بخفة بين الأوراق والغصون. كان المكان ساكنًا، لا يُسمع فيه سوى أنفاس الريح وهي تداعب الأشجار.

هذا مريح.

كانت تلك آخر فكرة سمح بها عقلها قبل أن يغرق في صمت تام، بعد أن كان قبل دقائق يوشك على الانفجار.

.
.
.

"سيدي، كل شيء شيء جاهز" أعلمه الخادم ليومأ السيد هارفي ويعقب 

"الوليمة جاهزة، تفضلوا"

"أين هي فيوليت؟" سألت جورجيا وهي تلقي نظرة خلف كتف السيد هارفي نحو النافذة المطلة على الحديقة.

استدار لينظر هو الآخر ثم قال "تفضلوا أنتم إلى الطاولة، أنا سأرى… إن لم أجدها سأرسل الخدم ليبحثوا عنها"

تحرك باتجاه النافذة البعيدة عن مكان جلوسهم، وعقله مشغول..لقد كانت الآنسة فيوليت محترمة ليلة العشاء، لكن تصرفها قبل قليل لم يمنحه أي سبب ليطمئن لفكرة بقائها في القصر، حتى لو كان الأمر أكثر راحة للآنسة جورجيا.

أطلق نفسًا طويلًا وهو يتذكر كيف باغتته بسؤالها عن عائلته..  سؤال قد يكون عابر في نظرها، أو ربما طرحته عن قصد.

أخذ خطواته الأخيرة حتى وصل إلى النافذة، ومد نظره عبر الحديقة الغارقة في ضوء الشمس المتناثر، حتى وقعت عيناه على مشهد غير متوقع.

هناك، تحت شجرة ضخمة، أرجوحة قديمة تتدلى بحبالها العتيقة، وعلى مقعدها الخشبي تجلس الآنسة فيوليت، رأسها مائل قليلًا إلى الجانب، وعيناها مغمضتان، كأنها استسلمت بالكامل لهذا الركن المنعزل.

تجمد في مكانه، لا يدري أي شعور يتسلل إليه أولًا، الانزعاج من احتكارها لشيء آخر في قصره، أم خيط الماضي الخفي الذي تستمر فيوليت في شده على عنقه.

شد على فكه ومر على ذهنه طيف شخص آخر.. لقد صنع الأجوحة بيديه لها، تلك التي أمضت آخر أيامها منعزلة ولا تجد متنفسا إلا عليها.

إن لحظة ضعف الآنسة فيوليت خلقت تشابها صادما بينهما لدرجة أن صدره انقبض كأنه رأى لقطة من الماضي.

ملامحه لم تَلِن، لكنها فقدت شيئًا من حدتها.

"هل وجدتها؟ أعتذر، لقد مرت دقائق وأدرت أن أتأكد أن كل شيء بخير"

أخرجه صوت الآنسة جورجيا من أفكاره، دقائق؟ يكاد يقسم أنه لم يقف أكثر من لحظة، استدار إليها وأجاب متجها نحوها "عينيها مغمضتين ولا أظن أنها ستستطيع سماعي.. دعيني أبعث خادمة لها"

"هل هي بخير؟"

"نعم، فقط جالسة في الحديقة.. لا تقلقي"

انضما إلى الطاولة مع السيدة ليديا والسيد لورانس، جلس السيد هارفي على رأس الطاولة وبجانبه جورجيا التي تجلس بجوارها السيدة ليديا وكان السيد لورانس بالجانب الآخر للسيد هارفي.

أشر للخدم ليبدؤوا التقديم، فتقدّم أولهم بطبق كبير من اللحم المشوي على الطريقة الفيكتورية، قطعة مرتبة بعناية تتخللها شرائح من الجزر والجزر الأبيض والبصل المُكرمل، تتصاعد منها رائحة الزعتر وإكليل الجبل.

تبعته أطباق جانبية، فطائر لحم صغيرة محشوة بالبطاطس والبازلاء، وبطاطس مشوية بالزبدة حتى احمرّ سطحها، وخضار مطهوة على البخار من الفاصولياء والهليون، إلى جانب خبز طازج خرج للتو من الفرن مع زبدة طرية.

وفي المنتصف، وُضع وعاء من حساء الكونسوميه الصافي المزين برشة من البقدونس، مع سلطة بسيطة من أوراق الخس والجرجير والتفاح المقطع.

رائحة الطعام غمرت الصالة، لكن الجو لم يخلُ من الرقي الذي يفرضه وجود السيد هارفي، حتى عندما يتحرك الخدم وتكثر الحركة.

"أعتذر عن التأخير" 

انساب صوت فيوليت رقيقا ودافئا ثم تقدمت بخطى ثابتة للطاولة وجلست بجانب السيد لورانس.

"هل تشعرين بتحسن آنسة فيوليت؟" سأل السيد هارفي لتبتلع ريقها وتعقب باختصار

"أجل، شكرا لك"

بدأ الخدم بتعبئة الأطباق وسمحت فيوليت لنفسها أن تجول بنظرها على الطاولة.. لقد كانت طاولة فخمة ولكن بسيطة.

لقد كان بإمكان السيد هارفي استعراض أكثر من طبقين رئيسيين، وأبطاق جانبية لا تُحصى لكنه إكتفى بطبق رئيسي واحد وبضعة أطباق جانبية فقط.

الطاولة ليست متواضعة بأي طريقة كانت، فالأطباق التي وُضعت ورغم قِلَّتِها مقارنة بثروته إلا أنها كانت كلها أطباق فخمة ومعروفة وسط المجتمع، كما انها قدمت بكميات محترمة وأواني قد تشتري إسطبلا من الخيول.

أكلوا في صمت وشعرت فيوليت بالأسف لأنها لم تستطع أكل الكثير نظرا لحالتها السيئة.

"سيد هارفي" خرج صوتها ضعيفا ووقفت لتكمل بصعوبة "إنني حقا لا أستطيع الجلوس بعد الآن، إن الوليمة كانت حقا من ألذ ما تذوقته، شكرا لحسن ضيافتك لكن.. هل يمكنني الاستراحة في الصالة إلى حين انتهائكم؟"

"هذا لا يعقل" قال ودق بجرسه ليدخل خادم عبر الباب وأكمل السيد هارفي دون أن يدع مجالا لأحد بأن يتناقش معه "اصطحب الآنسة فيوليت إلى غرفة الجلوس واستدع السيدة ريما لتأخذ نظرة عليها"

لم تتجادل معه، انحنت باحترام وتمتمت شكرا بامتنان لتذهب.
.
.

"أربعة عشر رجلا!" جملة أخرى بصوت عال للخادم الذي يمسك يدها باحكام وعلى وجهه ابتسامة بلهاء لم تستطع الا الابتسام لها في المقابل.

كان يخبرها عن كيف واجهت أُمُّه أربعة عشر رجلا فقط لتهرب من أبيه، ذاك الأخير الذي كان سكيرا ولا فائدة منه سوى الصراخ والتعنيف.

"لقد كانوا قطاع طرق، لو رَأَيتِني.. كقرد صغير على ظهرها"

طاقته كانت مختلفة كثيرا ذبت الحياة في هذا القصر الساكن، كان يتحدث منذ خرجا من الباب، يشارك كل شيء وأي شيء بعشوائية، يده لم تتسلل إلى أي مكان غير يدها التي يضعها داخل يده ليسندها في الطريق.

"إلتقينا بالسيد هارفي تلك الليلة بالضبط.. لقد كانت صدفة محضة.. كان عائدا من الريف ولولا تلك اللحظة لما تغيرت حياتنا أبدا"

رفعت رأسها أخيرا فيه وقد شدها ما قاله، لكنها كبحت أسئلتها واختارت أن تتعرف عليه أولا "لقد أخبرتني عن حياتك كلها ولم تخبرني باسمك؟" 

"يا لسخافتي! أنت محقة.. إسمي كارمِل، أنت الآنسة فيوليت"

"أجل، لقد سعدت بلقائك كارمل لكن سيتعين عليك إخباري عن مغامراتك لاحقا لأن رأسي سينفجر" قالت بإبتسامة بشوشة ليومأ ويقول بسرعة

"طبعا! لقد وصلنا بالفعل إلى الغرفة.. سأرسل في طلب السيدة ريما"

"إنك لطيف للغاية كارمل.. أراك لاحقا"

فتح لها الباب وذهب وهو لا زال يتحدث "لن يصدقوا أنفسهم.. علي اخبار كل من في المطبخ!"

دخلت واستلقت على السرير مباشرة، لم تستطع حتى تأمل ما حولها.. إنها متعبة بهذا القدر.

.
.

"أقول لكم رأيتها بعيني.. جمالٌ كلاسيكي هادئ وملامح ناعمة" قال كارمل يصف الآنسة فيوليت وهو يستند على سطح رخامي في المطبخ

"كارمل، ماذا عن الآنسة جورجيا؟" سألت لورا وهي تساعد بقية الخدم في الأطباق التي عادت إلى المطبخ بعد أن قدموا التحلية.

"للحق إنها جميلة للغاية.. لكنها مبهرجة كثيرا! عيناي اعتادت على السيد هارفي والسيد كارلوس اللذان يركزان على الجودة وليس الألوان وكثرت الجواهر" 

"اصمت بحق الله، إنها ستصبح سيدة القصر.. لا نحتاج مشاكل هنا"

"إنني مغرم" قال بهيام ليتأفف جميع من في المطبخ منه، هذا هو طبعه لذا اعتادوا عليه.. كارمل لا يأخذ شيئا على محمل الجد.

"كارمل" صدح صوت السيدة ريما أمام مدخل المطبخ، نظرة توحي بالوقار الذي هي عليه ليقف مستقيما ويردف "نعم سيدة ريما"

"لقد اُرسلَ في طلبي، تعال أرني غرفة الآنسة وكفاك ثرثرة"

ذهبا معا بعدها مباشرة إلى الغرفة التي بها الآنسة فيوليت.. تعرفت عليها السيدة ريما فورا، إنها تتردد على المستشفى التي تعمل به، فتاة مجتهدة ويحبها الجميع.

بعد معاينة سريعة استطاعت السيدة ريما تحديد الأعراض والسبب.

"إن الاجهاد واضح عليها وأعراض الزكام لم تزد حالتها إلا سوءا.. كارمل، حضر لها شاي زهور البيلسان مع الزنجبيل"

تبادل نظرة مع السيدة ريما فهما فيها كلاهما أن شيئا ما هنا غير مفهوم لذا أضافت "استدعي لي أرماند، قل له تحتاجك السيدة ريما لدقيقة.. وكارمل، اطبق على شفتيك" 

نبهته في آخر حديثها ليومأ ويذهب بسرعة ليلبي أمرها وما هي إلا دقائق حتى كان السيد هارفي أمام الغرفة بالفعل، خرجت وأغلقت الباب خلفها.

"ما الأمر؟" سأل وهو ينظر إليها باستغراب لتطلق نفسا ساخنا وتعقب "أمتأكد أن الفتاة مرافقة للآنسة جورجيا؟"

"أنا لا أعيش معهم، هذا ما قالوه وهذا ما قالته هي أيضا.. لماذا؟"

"إنك سيد هذا القصر يا أرماند… وكلانا يعرف الفرق بين الخدم والمرافقين. المرافق أعلى مرتبة من رئيس الخدم نفسه، لأنه يكون خاصًا بالسيد فقط." رفعت حاجبها قليلًا، ووضعت يديها خلف ظهرها وهي تخطو ببطء نحوه، لم يغير الزمن شيئا في نظرتها الحازمة "وجسدها لا يدل على شيء من هذا، أتقول لي أن عينك الدقيقة لم تلحظ شيئًا؟"

شد قبضتيه، ثم أجاب بفتور "لم أنظر إليها مطولًا لألاحظ شيئًا غريبًا… وجهها كان يبدو دائمًا بخير، واليوم فقط أبدت أعراض المـ-" قطع نفسه حين التقت عيناه بنظرتها المتفحصة، وأطلق نفسًا قصيرًا "حسنًا، ما الذي تريدين قوله لي، ريما؟"

اقتربت منه خطوة أخرى وقالت "يديها خشنتان وجسدها ضعيف..الآنسة فيوليت تتطوع في المستشفى، ومما سمعت من كارلوس، فهي تتطوع في الميتم أيضًا. إنها تعمل بشكل متواصل، التفاصيل لا تتشابك مع بعضها"

كان في نبرتها مزيج من التحقيق والشك، ذاك المزيج الذي يعرفه منذ أن كان تحت رعايتها كطفل، حين كانت تمسك عليه شيئا.

"لا يهمني" قال آخيرا مشيحا بنظره عليها وأكمل "يكفي أن تكون محترمة للعيش هنا، الآنسة جورجيا تريدها هنا.. وفي الحقيقة بعد ما حدث اليوم، أنا حقا ضد الفكرة تماما" 

سرد عليها بصداقية ما حدث ليلة العشاء وما وقع بينهم قبل قليل أيضا.

"عجيب، ما سمعته أنا كالتالي.. جلبتم فتاةً، وضعتموها أمامكم لتوزنوا قيمتها كما لو كانت قطعة في مزاد، ثم ضغطتم عليها حتى نَبَشت ماضيها المؤلم أمامكم لتُبرر لكم موقفها وعندما ثارت… أصبحت هي المخطئة"

انعقد حاجباه، ونظر إليها باستنكار واضح، كأنه لا يصدق أنها تدافع عنها في وجهه.

"إنني إنسان حذر ولا أحب التشويش في حياتي اليومية.. لقد كان من حقي أن أسأل عن خلفيتها"

"السؤال ليس المشكلة، الطريقة هي المشكلة" قالت واقتربت لتمسك كلا ذراعيه بيديها ثم أكملت "لقد كنت بجانبك منذ كنت طفلا، شَهِدْتُ على كل العقبات التي وضعت أمامك، رأيتك تتخطى وتنجح.. إنني أعرفك كفاية لأقول بثقة أنك تتعامل معها بقسوة لم أعهدها عليك من قبل"

"إنني…" بدأ الكلام لكنه توقف، الكلمات تبخرت من على لسانه وفي داخله، لا يرى نفسه مخطئًا.. لقد كانت هي من أزعجته منذ البداية، ليس الآن فقط، بل منذ رآها تعبث بلوحاته في الحفل.

هل ردة فعله مبالغ فيها؟ لا.. هو لا يظن ذلك.

"الآنسة فيوليت فتاة محبوبة.. من الواضح أنكما أثرتما ازعاج بعضكما البعض لكن لا تُجرد نفسك من الخطأ أرماند" قالتها وهي تترك ذراعيه، ثم مدت يدها لتربت على خده برفق، قبل أن تستدير وتبتعد في الممر بخطوات هادئة.

تركته واقفًا أمام الباب، حائرًا.

لكنه يُقَدِّر ريما كثيرا لذا أخذ بعين الإعتبار ما قالته وقرر أن يضع المشاعر التي أُثيرت بداخله وينظر إليها بحيادية.

لربما يرى ما يراه الآخرون فيها.
لربما يرى ما هو أعمق.

--------------------------------------------------------------------------

وهذا كان الفصل الربع 

يا جماعة الخير إنني حقا أكتب القصة ولا أعدلها فحسب، ما هذه الورطة؟ 🙂

أتمنى أن الفصل نال إعجابكن، دمتن بخير ♥️♥️



تعديل المشاركة Reactions:
author-img

DarkStar Stories / قصص النجم الأسود

لا تسطع النجوم إلا في سماء مظلمة و ما أنا إلا نجم متفجر في سمائي الخاصة، مرحبا بك في سمائي و تعال معي لنسطع معا
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة