الفصل الثالث : جروح الماضي
السلام عليكم يا معشر القارئات الجميلات ♥️
أسعد الله أوقاتكن، كيف حالكن؟ إن شاء الله كلكن في أمان الله ورحمة.
إستمتعوا بالفصل ♥️
-----------------------------------{3}----------------------------------
استلقت فيوليت على السرير بتعب، جسدها يطالب بالنوم لكن عقلها يأبى التوقف عن التفكير، لا زالت تشعر بخفقان قلبها وهي تتحدث وسط الملأ وهي خادمة بسيطة بينهم.. لقد كانت دائما متعطشة للحظات التشويق التي كانت تدخل بين الحين والآخر إلى حياتها.
"فيوليت"
أدارت رأسها نحو الباب حيث تقف جورجيا، أغلقت الباب وتقدمت لتقف أمامها وتكمل "علينا أن نتحدث ونتفق على بضعة أشياء"
"أيمكن تأجيل الأمر للغد، رأسي يؤلمني" قالت فيوليت دون أن تتحرك من مكانها
"سنتحدث بسرعة وبعدها نامي" قالت وجلست بجانبها على السرير لتسترسل "لماذا أنقذتني من الإقصاء؟"
"لكي تكوني مدينة لي" قالت فيوليت بكل بساطة ثم تشاركتا نظرة مطولة.
كلتاهما تعلمان أن العلاقة بينهما لا تقع تحت أي مسمى، على الرغم من المظهر الخارجي حيث كانت فيوليت تُقدَّم كخادمة خاصة لجورجيا إلا أنها لم تكن يوما خادمة في هذا المنزل بل تكفل بها السيد لورانس منذ كانت طفلة، لكنها لم تكن أفضل حالا من الخدم، لقد عاشتا معا لسنوات طويلة وجمعت بينهما مواقف كثيرة وخلف الأبواب المغلقة تصبح جورجيا أقل حدة في التعامل مع فيوليت.
لم تُعلق فيوليت على ذلك أبدا فهي ورغم وحدتها كانت تعرف حق المعرفة أن جورجيا لم ولن تصبح صديقة لها.
"حسنا، في حدود المعقول طبعا.. لديك طلب أنا مدينة لك به" قالت جورجيا ثم وقفت من مكانها لتكمل "لقد أخذت القرار قبل الحفل والآن بعد ما حدث تأكدت أن قراري في محله، ستذهبين معي إلى القصر بعد الزواج، لا أريد خادم-.. مرافقة جديدة أعلمها كيف تتعامل معي من الصفر"
"حسنًا" قالت فيوليت بهدوء، كأن الأمر لا يعني شيئًا لها.
"أيضًا، السيد هارفي سيأتي يوم الخميس للعشاء... استجمعي طاقتك، فالتحضيرات ستكون طويلة، أحتاج أن أتجهز" أعلمتها جورجيا وهي تتجه نحو الباب.
"حسنًا" كررت نفس الكلمة، بنفس الهدوء، وسحبت الغطاء على جسدها استعدادًا للنوم.
لكن جورجيا لم تتحرك، ظلت واقفة مكانها، وفي ملامحها شيء من التردد، من التوتر، من شيءٍ لا يقال بسهولة.
"أريدك أن تستمري في مساعدتي"
أزاحت فيوليت الغطاء قليلاً وأدارت وجهها إليها، مستغربة .."في ماذا؟ الاختبارات انتهت وتم اختيارك بالفعل، ما الذي بوسعي فعله بعد الآن؟"
"هذا لا يضمن شيئًا يا فيوليت" قالت جورجيا بصوت خافت، وكأنها تكتشف الأمر بينما تتكلم "السيد هارفي سيستمر في تقييمي وطرح الأسئلة عليّ… إلى حين أن أتزوجه. الاختبارات كانت فقط البداية، هو لا يعرف شيئًا عن شخصيتي أو مهاراتي، كل ما يراه حتى الآن هو انطباع أول وهذا ليس كافيا ليقتنع"
صمتت قليلًا، ثم أردفت "وأنا لا أريد أن أفشل"
زفرت فيوليت بخفة، وقالت بسخرية ناعمة "هذا فعلاً صحيح، لكنني لا زلت لا أفهم ما دوري في كل هذا؟ هل سأجيب أنا عن أسئلته؟ وأحظى بالمحادثات معه بدلا عنك؟ هذا لا يعقل!"
"طبعًا لا، هذا ليس ما أحتاجه" اقتربت جورجيا خطوة، وقالت بجدية أكبر "أريدك إلى جانبي في حضوره… ركزي عليه، على كل كلمة، كل تصرف وحركة منه، لاحظي ما لا أستطيع أنا أن ألاحظه، ما يُقال داخل دوائر المجتمع، أريدك تخبريني بكل شيء صغير أو كبير قد يفيدني في التعامل معه.. هذا ما أريده"
ساد الصمت بينهما مجددا، إن الذهاب مع جورجيا إلى القصر وخدمتها شيء لكن مراقبة السيد هارفي، البقاء على مقربة وإيصال الأخبار عنه شيء آخر ويتطلب جهدا ليس لها رغبة في بدله.
"لا أريد.. ربما السيد هارفي تغاضى عن تدخلي في الحفل لكنني أبقى أقل شأنا من أن أكون أمام ناظره دائما وأن أبقى طرفا ثالثا بينكما"
تبريرها منطقي وجورجيا كانت أدرى بذلك، لكنها فكرت جيدا، لديها صورتها داخل المجتمع ولا تستطيع أن تثق في شخص معين ليأتي بالمعلومات والشائعات عنه، ثم ليست متألقة في الملاحظة ودراسة الناس كما تفعل فيوليت
"لا تقلقي، سنشرح له بطريقة غير مباشرة أنك لست خادمة فعلا، أنك جزء من العائلة وأنني متعلقة بك" أصرت جورجيا على قرارها.
جزء من العائلة.
ربما هذه كانت أسخف جملة سمعتها فيوليت طوال سنوات حياتها.. أخذت نفسا عميقا تفكر جيدا في ما تطلبه جورجيا ثم قالت بعدها "هذا سيتطلب جهدا"
"أعلم" أجابت جورجيا دون تردد
"لا أحب بذل مجهود لن آخذ عليه مقابل" قالت فيوليت بثبات
"أعلم هذا أيضا.. ما طلبك؟"
"سأفكر في الأمر.. الآن دعيني أنام"
وبهذا غادرت جورجيا، تاركة فيوليت وحدها بين أفكار متشابكة تقذفها من فكرة إلى أخرى حتى غلبها النوم.. كان الليل يلف المدينة بردائه الصامت، نصفها غارق في الأحلام، بينما النصف الآخر لا يزال مستيقظًا، ومن بينهم السيد هارفي وصديقه الوحيد ومساعده الخاص، السيد كارلوس.
جلسا في مكتبه الفسيح على طاولة تغرق في الأوراق والحسابات الشهرية، فقد كان السيد هارفي يمتلك أسطولًا بحريًا يملأه بالشاي، والتوابل، وأثواب الحرير الفاخرة، يتاجر بها في أكبر الأسواق. ومن أرباح تجارته هذه، استطاع أن يشتري مساحات شاسعة من الأراضي ويبدأ في استثمارها في الفلاحة، ليبني إمبراطوريته الواسعة حجرًا فوق حجر.
"يبدو أن كل شيء مضبوط يا أرماند، فلنأخذ استراحة. أخبرني بما حدث في الحفل، ثم نخلد للنوم" قال كارلوس وهو يغلق الكتاب الضخم للحسابات، متجهًا نحو العربة الصغيرة في زاوية المكتب، حيث تراصت أباريق الشاي وأعشاب مهدئة.
"كل شيء مر بسلاسة" أجابه بصوت متزن، ثم بدأ يسرد تفاصيل الحفل باقتضاب.
رفع كارلوس حاجبه بابتسامة خفيفة وهو يناوله كوب الشاي الساخن بعد أن غلى الماء، وقال "وجدتها إذن... أنا متفاجئ"
أخذ أرماند الكوب بيد ثابتة، وارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة قبل أن يرد "خسرتَ الرهان يا كارل، أنت مدين لي"
قالها وهو يمد يده بملامح نصر واضحة، لتتعالى ضحكة قصيرة من كارلوس وهو يخرج من جيب معطفه ساعة جيب قديمة ذات غطاء فضي مزخرف بنقوش متشابكة.
"لم أسمع يوما عن شخص اختار عروسته بهذه الطريقة الغريبة" قال كارلوس وهو يناوله الساعة وأردف "احتفظ بها، إنها أقدم قطعة عندي، رافقتني في كل رحلة بحرية"
تناولها أرماند ببطء، لقد كانت عينه عليها منذ زمن طويل ثم ابتسم بهدوء و أخذ رشفة من كأسه ليعقب قائلا "للصراحة أنا منبهر قليلا من التفصيل الذي لاحظته، الآن علي لقائها بضعة مرات لأتحدث معها وأطرح عليها أسئلتي المتبقية، عليها فهم المسؤولية التي ستصبح عليها أيضا.. ومن هناك آخذ قراري النهائي"
"من هذه الفتاة؟ ما إسمها؟"
"الآنسة جورجيا مولير، حضيت بمحادثة قصيرة معها ومع والدتها السيدة ليديا قبل ذهابهما من الحفل، والدها تاجر حرير معروف.. تبدو خلفيتها ملائمة بما يكفي"
"تريدني أن أتحرى عنها طبعا" قال كارلوس بيقين ليومأ أرماند دون أن يعطي أي أوامر أخرى، فلطالما كان عمل كارلوس متقنا ولا يحتاج ليوصيه بشيء.
أنهى الحوار هنا واحتفظ أرماند بذلك الانزعاج الذي كان يحوم في داخله، لم يلتقط اسم الخادمة، ولم يكلف نفسه عناء السؤال... ومع ذلك، لم يستطع منع عينيه من الانجراف إلى الخلف، حيث كانت تقف خلفهما بهدوء.
نفض عن ذهنه هذه الأفكار واختار أن يتجاهل الأمر للآن.
.
.
.
التحضيرات في المنزل كانت هائلة، كل زاوية تغيرت، وكل قطعة أثاث استبدلت بأخرى أفخم، حتى صار المكان يبدو وكأنه بيت آخر تمامًا. ثلاثة أيام فقط كانت كافية لقلب كل شيء رأسًا على عقب، وكل ذلك لأن السيد هارفي قادم للعشاء.
ظهرها كان على وشك الانقسام من التعب، وجهها شاحب من الجوع، ليس لقلة الأكل بل لأنها وسط الانشغال تنسى أن تأكل وجسدها يكاد ينهار من الإرهاق.
ومع ذلك، لم ينتهِ كل شيء بعد، فما زال عليها حضور العشاء، بعدما أصرت جورجيا أمام والدتها على أن تكون فيوليت حاضرة.
سيكون الأمر ممتعًا بلا شك، لكن مع رجل مثل السيد هارفي، ربما يرفض حتى الجلوس على طاولة واحدة مع خادمة مثلها.
الليلة ستكون طويلة للغاية، وكآبتها بدأت تتسلل إلى قلبها من الآن، لكنها تعلم أن هذا هو الثمن الذي عليها دفعه لدخول القصر وأيضا لتحضى مؤقتا بيد عليا على جورجيا.
وقفت مستقيمة، تسند جسدها المنهك، واتجهت نحو خزانتها.. نظرت إلى الفساتين التي اشترتها لها جورجيا، وكلها على ذوقها الفاخر، فيما لم تستطع فيوليت أن تختار سوى فستان واحد فقط، كان يعبر عن ذوقها الخاص.
سحبته ببطء وضمته إلى صدرها، لم يكن مغرورٌ مثل هارفي يستحق أن تتأنق لأجله، لكنها لا تريد الحضور بمظهر رث أيضا.
وكما عهد الإتفاق بينها وبين جورجيا، لقد أمضت فيوليت اليوم السابق تخبر جورجيا بكل ما تعرفه عن السيد هارفي، بما سمعته عنه في الحفلات، من أحاديث الخدم، وفي السوق، وفي كل مكان ذُكر فيه اسمه.
فُتح باب الغرفة لتطل جورجيا من ورائه، أنيقة وجاهزة، قائلة "هل انتهيتِ؟"
"أجل، هل هو هنا؟"
"لقد استقبلته أمي وأبي، سأنزل أولاً لشرب الشاي، وسأرسل في طلبك بعد دقائق" قالتها همسًا، لتومئ فيوليت بالموافقة.
جلست على حافة السرير بهدوء، أغمضت عينيها لبُرهة.. ها هي ذا، لحظة إثارة أخرى ستعيشها بعد قليل.
انتظرت دقائق، حتى جاءت خادمة أخرى من المنزل، تخبرها بأنهم يستدعونها.
نزلت إلى الأسفل بخطوات واثقة، لكن ما إن وضعت قدمها على عتبة الصالة الكبيرة، حتى اضطرب كيانها من الداخل.
ما الذي يفعله السيد كارلوس هنا؟!
كان من المفترض أن يأتي السيد هارفي وحده إلى العشاء، كيف سيمكنها مراقبة تصرفاته الآن بينما عيناها تأبى أن تتحرك بعيدًا عن السيد كارلوس؟
"تقدمي، عزيزتي" قالت السيدة ليديا، وقدمت لها يدها لتساعدها على التقدم.
كانت فيوليت مستعدة لمثل هذه المجاملات، لكن تخيل الأمر شيء، ورؤية الأكاذيب وهي تُنسج أمامها شيء آخر.. شعرت بالاشمئزاز يملأ قلبها.
"أريد أن أقدم لكما فيوليت، لقد تربت في هذا المنزل منذ أن كانت في العاشرة"
تثبتت أنظارهما عليها، وساد الصمت على المكان..
كانت هذه المرة الأولى التي يرى فيها السيد هارفي فيوليت دون رداء الخادمة المعتاد، دون أي ستارٍ يحجب ملامحها الهادئة، كان وجهها ناعما ولكن عيناها تصرخان بالحياة كأن الشمس تتدفق منهما، أما السيد كارلوس، فلم تكن هذه المرة الأولى التي يراها فيها، فقد لمحها من قبل في الميتم حيث تتطوع، أكثر من مرة، لكنها كانت نظرة خاطفة، عابرة، لا تسمح بالتفاصيل.
والآن، كانت هذه فرصته ليتحدث معها دون أن يبدو تصرفه خارجًا عن اللباقة تجاه آنسة في عمرها.
"إنها ليست خادمة في المنزل، إنها مثل ابنتي" أضاف السيد لورانس، قبل أن يتابع "والدها كان تاجر حرير معي، كان يمتلك نصف ما أمتلكه لأننا كنا شركاء، لكنه مات خلال رحلة خارج العاصمة وضاعت كل البضائع بعد وفاته..لو كان حيًّا، لكانت لفيوليت حياةٌ مختلفة تمامًا"
ابتلعت ريقها بصعوبة، جرحها الذي لم يشفى رغم مرور السنوات فُتح مجددا وما يقوله السيد لورانس كان نصف الحقيقة فحسب!
"لقد اختارت أن تكون مرافقة لجورجيا وبينهما علاقة وطيدة" أضافت السيدة ليديا.
ظل السيد هارفي صامتًا، ينظر إلى الجميع بعين فاحصة، بعض تفاصيل القصة لم ترُق له، لكنه لم يعلّق.
"أين والدتها؟" سأل السيد كارلوس لتسبقها كلماتها دون أن تدرك"ماتت عند ولادتي"
"كونها مرافقة الآنسة جورجيا ليس أفضل حالاً من كونها خادمة، وبما أنك تكفلت بها سيد لورانس، فدعني أسأل..لماذا مستواها المعيشي، صورتها في المجتمع، وما تملكه أقل بكثير مما تملكه ابنتك؟ إذا كانت حقًا تحت رعايتكم، لماذا لم تُحافظوا على كرامتها كما يجب؟ الأمر برمّته... لا يبدو منطقياً" عبر السيد هارفي عن رأيه بصراحته المعهودة عليه.
نظرت فيوليت إلى السيد هارفي بثبات، كانت متأكدة من أن الأسئلة ستُطرح من كل زاوية ولم تكن لتتوقع أقل من ذلك من السيد هارفي وبغض النظر عن شخصيته إلا أن أي شخص سيلتقط التناقض ما بين ما يقال والواقع.
"لقد كنت في العاشرة من عمري وأصبحت بين ليلة وضحاها، يتيمة.. دون عائلة ولا مال يذكر، كان أبي كل شيء بالنسبة لي وبعده لم يبقى لي شيء سوى جسدي الذي أعيش بداخله والذي انهار بعد ما حدث.. ظللت لفترة من الزمن أحاول التمسك بشيء ما.. لم يكن ذاك الشيء سوى كرامتي.. الكرامة التي تتحدث عنها سيد هارفي هي نفسها التي لم تسمح لي أن أكون عالة على أحد ولهذا اخترت أن أخدم جورجيا ولا يهمني تحت أي مسمى أقع، خادمة أو مرافقة، طالما أنني راضية على نفسي.. أتمنى أن الوضع أصبح واضحا الآن" انسابت الكلمات من فمها لتجد أنها انفعلت وسط حديثها وشاركت أكثر مما أرادت.
ظل السيد هارفي صامتًا... يحدّق فيها مطولًا بنظرات يصعب فهمها ، لم يتدخل أحد في النقاش.. أما هي، على الرغم من القاء آلامها أمامهم لم تزح نظرها عنه لعلها تقرأ شيئا فيه.
لكن لم يتحرك شيء في جسده، ولو بمقدار ذرة، وظلت ملامحه على حالها، لا تشي بشيء.
هل صدّق ما قالته؟
أم رأى في ثباتها نبرةً من وقاحة؟
في كبريائها جرحًا لكبريائه؟
لم تُمنح أي إشارة... ولم تتلقَ أي رد.
"يبدو أننا فتحنا موضوعًا حساسًا، آنسة فيوليت"
قالها السيد كارلوس، محاولًا كسر حدة الصمت بنبرة دافئة، لتُسانده جورجيا بسرعة "هذا صحيح.. إن لم تكن لديك أسئلة أخرى، سيد هارفي، فلنتفضل إلى طاولة العشاء"
لكن السيد هارفي لم يستجب لدعوتهما على الفور، بل حرّك جسده أخيرًا واعتدل في جلسته، كما لو أنه أجرى في داخله حوارًا مطوّلًا انتهى للتو، وجاء قراره على هيئة سؤال "والآن..." توقف للحظة، ناظرًا إليها بجدية "ما الذي تريدين فعله؟"
ما الذي تريد أن تفعله؟
لم تكن تعلم.
لم يكن لديها وقت كافٍ لتفكر في رغباتها، لم يُمنح لها ذلك الحق ولم يسألها أحد هذا السؤال من قبل.
"لا أعلم" قالتها بهدوء، بصوتٍ خافت لكنه واضح.
ثم توسعت عيناها كأنها أدركت ما تقوله وعادت تهمس "لا أعلم، سيد هارفي..." وكأنها تُكررها لنفسها أكثر مما تُخاطبه، ما الذي تريده؟ غير رغبتها في دخول القصر لتصبح على مقربة من السيد كارلوس؟ لا شيء.
لم ترى مستقبلا ولا استقلالا حتى في موهبتها وحبها للرسم.
أومأ السيد هارفي وقرر أن يغلق الموضوع عند هذا الحد، لم تكن هذه المحادثة ضمن ما تخيله في الأصل. كان يرغب فقط في معرفة القليل ليتأكد إن كان حكمه الأولي عنها صائبًا أم لا، خاصة بعدما أوضحت الآنسة جورجيا في رسالتها الأخيرة رغبتها في اصطحاب الآنسة فيوليت معها بعد الزواج، وهو ما استوجب عليه أن يعرف إن كانت تستحق ذلك أم لا. لذا استقام من مكانه ليجلس الجميع بعدها على طاولة العشاء.
مرّ العشاء بسلاسة، مع تبادل محادثات خفيفة من هنا وهناك.
أبقت فيوليت عينيها على السيد هارفي وهي تحاول ألّا تُظهر ذلك بوضوح، ولاحظت أنه بطبيعته قليل الكلام، وإن تكلّم فهو لا يطرح سوى الأسئلة: عن مهنة السيد لورانس؟ عن اهتمامات جورجيا؟ عن دور السيدة ليديا وكيفية إدارتها للمنزل والخدم؟
لقد كان نبيلاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، من طريقة جلوسه وأكله إلى نبرة صوته الهادئة.
"لقد ذكرتِ أنك ترسمين، آنسة فيوليت"
نظرت بسرعة نحو السيد كارلوس الذي بدا على وجهه ابتسامة هادئة قبل أن يكمل "أيمكنني أن أرى شيئًا من أعمالك؟"
شعرت بحرارة تسري في جسدها وأجابت بصوت متردد "سيد كارلوس… رسمي متواضع للغاية، ولم أرسم سوى بضعة لوحات لوجهي، ولا أظن ذلك ملائمًا"
"اعذري وقاحتي، لكنني أصرّ" قالها وهو ينظر إليها بثبات يشي باهتمامه الحقيقي.
تفاجأت من عزيمته ولربما فاجأ نفسه هو الآخر، لكنه لم يستطع مقاومة فضوله، فقد وجد في الآنسة فيوليت شيئًا يثير اهتمامه، عمقًا خفيًا جذب انتباهه.
استقرت عين جورجيا عليهما، كانت هذه أول مرة تلاحظ فيها توتر فيوليت بهذا الشكل الواضح. بدأت فكرة جريئة تتكون داخل عقلها... هل تُرى، يعجبها السيد كارلوس؟
"لا أظنني أستطيع رفض طلبك الآن، سيد كارلوس"، قالت فيوليت بصوت خافت، ثم أعادت نظرها إلى طبقها.. هي التي كانت تحلم بالنظر إليه من بعيد، ها هي تحظى الآن بمحادثة معه على نفس الطاولة.
"سيد هارفي، هل تفضل أن تُدير كل أعمالك بنفسك؟" توجهت جورجيا بسؤالها إلى الطرف الآخر من الطاولة وهي تعرف الإجابة بالفعل فهذه المعلومة كانت ضمن ما تعلمته عنه من فيوليت
"نوعًا ما.. كل شيء يمر تحت ناظري ويُدقق من طرفي، لكن بما أن أعمالي كثيرة، فجزء منها يقع على كارلوس"
"أنا بدوري لدي ثلاثة أعوان، كل واحد منهم يتولى حسابات عمل محدد.. السجلات والحسابات تنتقل من الأعوان مباشرة إليّ، ثم أراجعها وأُرسلها إلى أرماند" أضاف السيد كارلوس موضحا أكثر طبيعة العمل.
"هذا شيء مثير للإعجاب، سيد هارفي" قالت السيدة ليديا كمجاملة لطيفة، والتي لم يرد عليها بشيء سوى إيماءة خفيفة برأسه، كعادته حين لا يجد ما يقال.
استمر الحديث في محور التجارة، شرح فيه السيد لورانس كيف يدير هو الآخر عمله، ويبدو أن الموضوع راقَ للسيد هارفي، فقد أظهر تفاعلًا أكبر، على عكس بدايات الأمسية.
في تلك الأثناء، مال السيد كارلوس قليلاً نحو فيوليت، وبدأ محادثة جانبية معها للمرة الثانية "هل كنتِ في الحفل، آنسة فيوليت؟"
تألقت ابتسامة عريضة على وجهها في لحظة، وكأن السؤال أعادها إلى ذلك المساء المليء بالتشويق "أجل! لقد كان حفلًا... خياليًا" قالت الكلمة الأخيرة بتردد خفيف، تحاول كبح شعورها الحقيقي بالازدراء.
"أتجدين طريقة أرماند في اختيار عروسه طبيعية؟"
باغتها سؤاله المفاجئ وكذلك اسمه الذي يردده السيد كارلوس بسهولة، ولم تعلم إن كان جديًا أم أنه فخ ليدفعها للحديث بسخرية عن الحفل.
لكنها لم تتأخر في الرد واختارت أن تبقى حيادية لكن صريحة في جوابها "الفكرة غير مسبوقة، هذا شيء لا نقاش فيه... لكن لرجل في مثل ثراء السيد هارفي ومؤهلاته؟ لو أخبر فتيات المدينة بسباحة البحر مرتان لفعلن ذلك حتما!"
ابتسم كارلوس بخفة، وكأن الجواب نال إعجابه أكثر مما توقّع..في هذه اللحظة، استقام السيد هارفي من مكانه، ونظر نحو السيد لورانس قائلاً باحترام "أتسمح لي بأخذ الآنسة جورجيا في جولة قصيرة حول حديقة المنزل؟"
"طبعًا، لكن الوقت متأخر..." قال السيد لورانس قبل أن يُضيف وهو يلتفت إلى الطرف الآخر من الطاولة "ماذا عن أخذ فيوليت معكما؟"
كانت فيوليت لا تزال مشغولة في حديثها الجانبي مع السيد كارلوس، تشرح له بلطف رأيها في إحدى اللوحات التي رأتها في الحفل، عيناها تلمعان بشغف وهي تتحدث، وابتسامتها تلك المشرقة لم تخفَ عن أعين السيد هارفي.
ما إن ذُكر اسمها، حتى التفت البقية نحوها، وسرعان ما اعتدلت في جلستها، نظرتها أصبحت أكثر تحفظًا، كمن تنبّه فجأة للمسرح الذي تقف عليه.
نظر إليها السيد هارفي مطولًا قبل أن يعلّق بهدوء
"إن رغبتِ بذلك"
تبادلت نظرة سريعة مع جورجيا، التي أجابت بابتسامة صغيرة "لا مانع لدي" ردّت فيوليت بهدوء، ونهضت بخفة.
لاحظ السيد كارلوس تبدّل تعبيرها من الحماس العفوي إلى الحذر وإكتفى بمراقبتها وهي تنهض.
كان المشي خلفهما كأنه تنفيذٌ لحكمٍ بالإعدام... صمتٌ ثقيل يخترقه فقط صوت الأقدام وهي تلامس العشب الرطب تحت ضوء القمر.
"ما الذي تأملينه مني، آنسة جورجيا؟"
كسر صوته الصمت فجأة، لتنظر إليه جورجيا باستغراب خفيف، لم تفهم ما يرمي إليه.
"ما الذي تقصده؟"
"أقصد كزوج... ما الذي تنتظرينه مني بعد الزواج؟" كرر سؤاله بوضوح.
توقفت لبرهة قبل أن تجيب بنبرة ثابتة "أنا لا أؤمن بالحب بقدر ما أؤمن بالاحترام... لقد كنت أعزبًا لسنوات طوال في العاصمة، دون إشاعات أو مغامرات تُذكر، وهذا يكفي لأثق أنك ستظل كما أنت حتى بعد الزواج"
أومأ برأسه قليلاً وكأن كلماتها لم تُفاجئه "إذن، لن نواجه مشكلة في توقعاتك نحوي.. أنا رجل منشغل للغاية، لن أُهملك بأي شكل من الأشكال... ستحصلين على الاحترام الذي يليق بك كزوجتي، لكن لا تتوقعي مني وقتًا للعاطفة أو الاهتمام"
في الخلف، كانت فيوليت تسير بصمت، تراقب المشهد بأذنيها أكثر من عينيها، وقد شدّها الحوار بطريقة لم تتوقعها.
هل هذه هي الحياة التي تسعى إليها جورجيا حقًا؟ علاقة مرسومة بدقة، خالية من الدفء... كأنها شراكة بين تمثالين، كل منهما يؤدي دوره وفق قواعد محددة.
وبرغم كل شيء، وجدت نفسها تُعجب بصراحته.
إنه بارد، نعم، لكنه واضح... ولعلّ هذا بالضبط ما يجعل كلاهما مناسبًا للآخر.
توقف فجأة عن المشي واستدار لينظر إلى جورجيا ليقول بصوت جاد وحازم "أريدك أن تكوني على دراية بشيء آخر يا آنسة جورجيا... منصب السيدة هارفي لا يُمنح ببساطة، إنه يحمل من المسؤوليات ما يكفي ليكسر أي امرأة غير مستعدة"
رمشت جورجيا ببطء وأكمل السيد هارفي قبل أن تحظى بفرصة لتُجيب عليه
"أنا رجل لا أقبل إلا بالمثالية في عملي، ولن أقبل بأقل منها في قصري أيضًا، قد يبدو لك الأمر بسيطًا الآن، لكنك ستجدين لاحقًا أن كل حركة، كل كلمة، لها وزنها"
ثم أعاد نظره للأمام كأنه يرى المستقبل وقال "التهاون ليس خيارًا، وكوني اخترتك لا يعني أن الاختبار قد انتهى.. يمكنني سحب نفسي بهدوء في أي لحظة"
خفق قلبها بقوة، لقد كانت محقة إذا.. قد لا يتم هذا الزواج إن رأى أنها غير جديرة كزوجة.
"حسنا" كانت هذه الكلمة هي كل ما استطاعت اخراجه مع فمها بينما فيوليت ظلت صامتة ورائهما.
يا للهول!
عاد الثلاثة إلى المنزل بهدوء، وانفتح الباب الكبير فور اقترابهم.
أضواء الصالة رحّبت بهم من جديد، وانفصلت جورجيا عن السيد هارفي متجهة نحو والدتها، بينما وقفت فيوليت جانبًا تسترجع الحوار بصمت.
أما السيد هارفي، فاتجه نحو المدفأة حيث كان كارلوس ينتظر، وتبادلا نظرة سريعة بعدها تحدث السيد هارفي
"لقد كان عشاءً مبهراً، تأخر الوقت وسنأخذ إذننا الآن"
"لكن..." قال السيد كارلوس وهو ينظر إلى فيوليت "لا زلت لم أرَ لوحاتك، آنسة فيوليت"
توقف قلبها لوهلة، ثم قالت بسرعة "إعذرني للحظة" وانطلقت نحو غرفتها بسرعة.
اختارت أفضل لوحة تملكها، قلبها يخفق وهي تنزل الدرج بخطى ثابتة رغم التوتر.
ناولته إياها بصمت، وأخذها منها بعناية، ليلتحق به السيد هارفي الذي اقترب ليلقي نظرة هو الآخر.
شعرت بأنفاسها تحبس وهي تراقب ملامحهما تنعكس على وجهها المرسوم في اللوحة.
"قلتِ أن موهبتك متواضعة" قال السيد هارفي بنبرة تحليلية، "لكنني لا أرى ذلك.. ببعض التدريب، قد تصلين بعيداً، آنسة فيوليت"
نظرت إليه بدهشة، لم تكن تتوقع أي ثناء، ناهيك عن ثناء منه تحديداً.
"فعلاً" تمتم السيد كارلوس وهو يمعن النظر في اللوحة، صوته أكثر هدوءاً، وكأنه يتحدث لنفسه، ثم قال "أريد شراءها"
تجمدت بتصريحه، هل سمعته جيدًا؟ لوحة لوجهها؟ وما الذي سيفعله بها؟
"لا أستطيع فعل ذلك، سيد كارلوس" ردّت بسرعة وابتسامة خفيفة على شفتيها "دعني أرسم لك شيئاً يستحق أن تأخذه معك، سأقدمه لك كهدية"
كان يريد أن يُصر لكنه استوعب أن الأمر سيكون محرجا لكلاهما.
"حسنا إذا، سأنتظر ذلك"
حين حان وقت الرحيل، رافق أفراد المنزل ضيفيهم حتى الباب كما تقتضي اللباقة.
"مجدداً، لقد كانت أمسية جميلة، شكراً لاستقبالك لنا، سيدة ليديا"، قال السيد كارلوس بلطف، بينما بقي السيد هارفي صامتاً كعادته، يكتفي بإيماءة سريعة قبل أن يصعد إلى العربة.
راقب الجميع انطلاق العربة حتى غابت عن الأنظار، ثم التفتت فيوليت نحو السيد لورانس وهمست بسخرية "ضاعت البضائع"
ومضت نحو الداخل دون أن تنتظر رده.
نظرت السيدة ليديا إلى زوجها بقلق وسألت "أكان ذلك تهديداً؟"
"لا تملكين ما تخشينه منها"، أجاب ببرود "دعيها تقول ما تشاء، فليس لها قوة تُذكر"
ومن يعلم؟ لربما تحصل على تلك القوة وفي يوم ما تصبح سيدة عليهم جميعا.
--------------------------------------------------------------------------
وهذا كان الفصل الثالث، أتمنى أنكم مستمتعون بالأحداث إلى الآن ♥️


إرسال تعليق